بعد سنوات من العمل مع استراتيجيات التسويق وبناء العلامات الشخصية والتجارية، بدأت ألاحظ نمطًا واضحًا: كلما ازدادت الأدوات والبيانات، قلَّ حضور الإنسان في طريقة تفكيرنا.
يتحوّل من شخص كامل بتجربته ومخاوفه وطموحه، إلى “عميل مستهدف”، “Lead”، “رقم في قمع مبيعات”.

في هذا المقال سأحاول إعادة ترتيب السؤال:

ما معنى “الإنسان قبل العميل” في التسويق؟

في لغة التسويق نستخدم مصطلحات مثل:
الجمهور المستهدف، شخصية العميل، الشرائح، الاستهداف…
كلها مفاهيم ضرورية، لكنها تصبح مجرد أرقام مزيفة عندما ننسى حقيقتها.

لأن الحقيقة خلف كل “عميل محتمل” هناك إنسان:

  • يخاف أن يضيع ماله وجهده بلا نتيجة.
  • يحاول أن يوازن بين مسؤوليات البيت والعمل.
  • يبحث عن معنى لحياته، لا عن منتج إضافي فقط.

علم النفس يذكّرنا أن الإنسان لا يتحرك بدافع “الاهتمام” السطحي فقط،
بل بدافع الحاجة إلى الأمان، والانتماء، والاحترام، والشعور بأن صوته مسموع.


كيف اختزلنا العميل في أرقام ومؤشرات؟

الأرقام مغرية؛ تمنح شعورًا سريعًا بالسيطرة:
- هذا الأسبوع تحسّن معدّل التحويل..
- الشهر القادم سنخفض تكلفة اكتساب العميل..
- والتقرير يبدو جميلًا..

المشكلة ليست في الأرقام ذاتها؛ المشكلة حين تصبح هي اللغة الوحيدة التي نفهم بها العمل.

عندها نرى العميل فقط كـ:

  • تكلفة اكتساب (CAC)،
  • قيمة عمرية (LTV)،
  • نقطة في “ال Funnel”،

وننسى أنه شخص يمكن أن يبقى معنا سنوات، التسويق الإنساني يقول العكس:

💡
استراتيجيات التسويق القوية لا تُقاس فقط بالبيع الأول، بل بقدرتها على جعل نفس الشخص يختارك مرة بعد مرة، ويرشّحك لغيره وهو مرتاح الضمير.

الإنسان: وسيلة أم غاية في استراتيجيتك التسويقية؟

من الخارج، قد تبدو الاستراتيجيات متشابهة:
إعلانات مدفوعة، محتوى، رسائل بريدية، عروض، صفحات هبوط.

لكن الفرق الحقيقي يكمن في المعاني التي تقف خلف هذه المنظومة:


كيف نعيد الإنسان إلى قلب استراتيجيات التسويق؟

الحديث النظري عن التسويق الإنساني جميل، لكنه لا يكفي.
حتى يعيش “الإنسان قبل العميل” في مشروعك،
تحتاج لخطوات عملية واضحة ومتدرجة:

1. أعد تعريف “العميل” داخليًا

اجعل سؤال فريقك:

من هو الإنسان الذي نريد خدمته حقًا؟

لا تكتف بوصفه بالعمر والدخل والهوايات..
أضف أسئلة أعمق:

  • ما الذي يخيفه؟
  • ما الذي يحاول حمايته في حياته؟
  • ما الذي لا نقبل أن نفعله معه، حتى إن أعطانا نتائج على المدى القصير؟

هذا التعريف الداخلي ينعكس تلقائيًا على أسلوب الخطاب، ونبرة المحتوى، وهيكل العروض.


2. راجع رحلة العميل من زاوية “الشعور”

ارسم رحلة العميل كاملة:
من أول لحظة تعارف، إلى ما بعد الشراء أو إنتهاء الخدمة.

وفي كل محطة، اسأل:

  • ما الانطباع الذي يخرج به من هذه الخطوة؟
  • هل نزيد اطمئنانه… أم نزيد قلقه؟
  • هل تواصلنا يحترم ذكاءه… أو يعتمد على الإرباك والإلحاح؟

هذه المراجعة قد تكشف لك أن المشكلة ليست في “الإعلانات”،
بل في رسائل ما بعد الشراء، أو في طريقة الرد، أو في مرحلة المتابعة.


3. أضف مؤشرات “إنسانية” إلى لوحة القياس

إلى جانب المبيعات ونِسَب التحويل، تابع مؤشرات مثل:

  • نسبة العملاء العائدين أكثر من مرة.
  • عدد الذين جاءوا عن طريق توصية مباشرة.
  • نوعية الرسائل التي تصلك من العملاء: هل فيها ثناء على التعامل والأسلوب، أم مجرد نقاش في السعر؟
  • القصص الحقيقية التي يحكيها الناس عن تجربتهم معك.

هذه المؤشرات لا ترتفع كل أسبوع،
لكنها تبني ما هو أهم من “نتيجة شهرية”:

تبني أصلًا إنسانيًا لعلامتك.


4. درّب فريقك على الإصغاء قبل الإقناع

جزء كبير من التسويق اليوم لا يتعلّق فقط بالمنصات والأدوات،
بل بمهارات إنسانية أساسية:

  • أن تسمع قبل أن ترد.
  • أن تعتذر بصدق عندما تخطئ.
  • أن تجرؤ على قول: “هذا المنتج ليس الأنسب لك” عندما يكون ذلك صحيحًا.
  • أن تشرح ببساطة وتحترم وقت من أمامك.

فريقك هو الترجمة الحيّة لفلسفتك في التسويق الإنساني؛
إن فهم الفكرة، حملها بلا شعارات.


5. دع محتواك يدافع عن الإنسان

يمكن أن يكون محتواك قناة بيع…
ويمكن أن يكون مساحة تحمي وعي الجمهور في نفس الوقت.

حاول أن:

  • تشرح للجمهور كيف يختار بعقل.
  • وكيف يحمي نفسه من الوعود المضلّلة..
  • وكيف يفرّق بين التسويق الذي يحترمه والتسويق الذي يستهلكه.

حتى لو أدّى ذلك أحيانًا إلى أن لا يشتري منك الآن،
إلا أنه يبني حولك صورة شخص/شركة تقف في صفك ك الإنسان،

وهذه قيمة تبنى ولا تُشترى بأي حملة إعلانية.


في الختام: من يبقى فعلًا في ذاكرة الناس؟

العلامات التي لا ترى أمامها سوى “العميل” يمكن أن تربح في موسم، وتختفي في الموسم التالي.

أما العلامات التي ترى في كل “عميل محتمل” إنسانًا يشبهها في القلق والتعب والرغبة في حياة أفضل،
فهذه تبني شيئًا أعمق من حملة ناجحة:
تبني ثقة، واحترامًا، وذكراً طيبًا يستمر حتى بعد انتهاء الخدمة نفسها.

ربما وأنت تقرأ الآن تشعر أن هناك فجوة بين ما تؤمن به في داخلك حول التسويق والإنسان،
وما تسمح به إستراتيجيتك الحالية.

هذا الإحساس ليس نقطة ضعف؛
بل بداية تصحيح حقيقي.

إن أردت أن تعيد ترتيب استراتيجيتك التسويقية
حول مبدأ بسيط وواضح: الإنسان قبل العميل،
يمكن أن نفتح هذا النقاش في جلسة استشارية نراجع فيها الصورة، ونرسم طريقًا يجمع بين أهدافك التجارية وقيم علامتك الإنسانية.

وأسألك بدوري:
ما التجربة التي شعرت فيها أن جهة ما عاملتك كرقم فقط…
وأخرى عاملتك كإنسان؟

شاركني تجربتك ورأيك؛في التعليقات.


في حال استفدت شارك المقال مع المهتمين من أصدقائك 🗞

اشترك ليصلك جديد المقالات 📩

شارك هذا المنشور